محمد خيري يكتب.. الحسابات الخاطئة لـ "ميشيل فوكو" حول الثورة الإيرانية

محمد خيري
محمد خيري

ما بين شهري يناير وفبراير تنتعش ذاكرة الإيرانيين باستعادة أحداث الثورة الخمينية التي قلبت الأوضاع في إيران رأسًا على عقب، واختلفت معها مقاييس النظر إلى بناء النظم السياسية في بنيتها النظرية وإطارها العملي على حد سواء، وهي أيضًا الثورة التي جذبت نظر الكثير من الفلاسفة اليساريين في فرنسا وأبرزهم ميشيل فوكو (1926 - 1984) الذي عبر عن إعجابه الشديد بمجريات الثورة الإيرانية في إطارها الروحاني استنادًا على مصطلح  Politique spirituelleأو "الروحانية السياسية" والذي سيكون له شأن كبير في تفسير “فوكو” لحالة "الجماهيرية" التي قوبلت بها الثورة الإيرانية في بدايات عام 1979، ويحتفي النظام في إيران حاليًا بذكراها الرابعة والأربعين.

(1)                     

إن من أبرز الأسئلة التي دارت في ذهن الكثيرين من المتابعين للأوضاع في إيران هي حالة التناقض التي بدا أن عاشها فوكو خلال تعاطيه مع الثورة الإيرانية، فرغم أنه عاش تجربة دينية سيئة وسط أسرة متزمتة أجبرته على الدراسة في مدرسة دينية شكلت توجهاته النفسية السيئة وكذلك توجهاته الجنسية فيما بعد، إلا أنه تعاطي بشكل إيجابي مع فكرة "الروحانية السياسية" التي فرضتها الثورة الإيرانية رغم علمه أن الخميني زعيم الثورة هو في الأساس رجل دين ويحمل تجربة دينية تفرض نفسها على الساحة الإيرانية، وهي التجربة الدينية التي ترفض - بالطبع - التحرر الجنسي الذي يطالب به فوكو، وهي بالطبع القاعدة التي أسس عليها فوكو فهمه الخاطئ لثقافة الشعب الإيراني بشكل عام وقواعد المذهب الشيعي بشكل خاص حول الدين والسياسة.

(2)

لقد بدا أن القاسم المشترك في ارتباط فوكو الروحاني بالثورة الإيرانية - قبل تغيير وجهة نظره فيها بعد كتابة "المقالات الإيرانية" - هو نشأة فوكو الدينية المتزمتة إلى حد كبير وهي التنشئة التي جعلته يرفض النظرة الدينية لكل الأمور المجتمعية، كما رفض التدين منذ طفولته بالرغم من تعليمه الذي تلقاه في مدرسة st.stanislas الدينية الداخلية، وهي المدرسة التي تسببت في تشكيل بعض الاضطرابات النفسية لاحقًا لدى فوكو، وهي أيضًا النشأة التي جعلت من فكرة "الروحانية السياسية" منطلقًا لرفض أشكال القمع السلطوي والسياسي والمجتمعي حتى لو انطلقت حركات التحرر من رجال الدين أنفسهم، فهي بادرة أمل لرفض السلطة الدينية من الأساس لأنها – من  وجهة نظر فوكو - الحركة التي جمعت في باطنها بين "الأيديولوجية الأصولية" و"النظرة التحررية اليسارية".

(3)

لكن فكرة "فوكو" عن الثورة بشكل عام اختلفت في بنيتها مع أفكار الثورة الإيرانية لاحقًا حين استتب الأمر للخميني ورجاله بالسيطرة على كل شئ، ولذلك لا يصح أن نتصور أن تكون الثورة مجرد إسقاط لسلطة معينة في دولة ما بحيث يقف الأمر عند هذا الوضع، متناسين أن ذلك المجتمع لا بد أن يشهد ميلاد جديد لسلطة جديدة تحمل في طياتها أفكارها الخاصة التي تحمل بدورها قيودًا على مجريات حياة الناس وإلا عادت الدولة إلى حالة الطبيعة التي وصفها توماس هوبز بأنها "حرب الجميع ضد الجميع" قبل أن يجاهد كثيرون من أمثال جون لوك في إبراز قيمة "العقد الاجتماعي" والعيش في إطار القانون.

(4)

لقد عاصر فوكو الكثير من حركات التحرر والأحداث السياسية المتسارعة في كثير من دول العالم، حتى أن فوكو نفسه شارك في الحركات التحررية التي طالبت بإسقاط سلطة شارل ديجول عام 1968 وهي التي عرفت في التاريخ الفرنسي بـ "أحداث مايو 68"، واستند على أفكار ماو تسي تونج الاشتراكية، علاوة على اعتناق فوكو للكثير من الأفكار اليسارية التي ترفض السلطة في شكلها السياسي، وهو ما تبلور في اعتبار فوكو للسلطة بأنها التحرر من كل القيود حتى القيود الجنسية التي تفرض إطارًا وحدودًا معينة في شكل الممارسة، ما جعله يرى أن التحرر الجنسي هو "أقصى درجات الحرية"، ومن هنا كان رفض فوكو لفكرة السلطة، حتى أنه حين سئل عن رأيه وتعريفه للسلطة قال إنها "علاقة إنتاج لا علاقة هيمنة".   

(5)

إن تأثر فوكو بأفكار ماركس وماو تسي تونج وانضمامه إلى الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1950 كانت دافعًا كبيرًا لاعتناق أفكار التحرر التي بثها ماركس وماو وفرانز فانون وسمون دي بوفوار ولويس ألتوسير وغيرهم من فلاسفة التحرر، وكانت أفكار هؤلاء العامل الأبرز في توجيه نظر فوكو إلى الاندماج مع أفكار الثورة الإيرانية، وهي نفسها العوامل التي تشابهت في سياقها مع الثورة الشبابية في فرنسا في ستينيات القرن الماضي ضد "الديجولية"، حيث تحركت الثورة  الشبابية في فرنسا دون قائد أو موجه، وانطلقت من أجل تحقيق مطالب حياتية عادية جعلتها تختلف في بنيتها عن بعض الأفكار الماركسية التقليدية للثورة في المجتمعات بشكل عام، وقد كان ذلك أحد القواسم المشتركة بين تلك الحركة التحررية الفرنسية في الستينيات والثورة الإيرانية في نهاية سبعينيات القرن الماضي.

(6)

يمكن القول أنه في بداية الأمر وجد "فوكو" في الثورة الإيرانية ضالته المعرفية المنشودة، والتي ما دام كان يبحث عنها طوال حياته، فنشأته في مدرسة دينية جعلته يوجه سهام النقد للتزمت الديني والقيود الإلهية على اختلافها ويقف في صف حركات التحرر حتى لو كانت حركات دينية.. لقد هاله أن يتحرك رجال الدين في إيران ضد القمع والسلطة ويطالبون بالحرية على غرار حركات التحرر اليسارية الأخرى، وهو ما جعله يطلق على تلك الحركة "الروحانية السياسية"، بالإضافة إلى أن نجاح الثورة الإيرانية على يد الخميني أشبع لديه الرغبة في التماهي مع فكرة نجاح قوة دينية تحررية في إسقاط سلطة قمعية، أملًا في استمرارها في السير في طريق التحرر المطلق من كل القيود، لكنه اصطدم بعد ذلك بإجراءات أخرى لنظام إيران الذي رفض "المثلية الجنسية" وباتت أفكار الثورة والتحرر على النظام الجديد تمثل في الأعراف الخمينية والخامنئية "محاربة لله" و"إفساد في الأرض" يعاني منه الشباب الآن في إيران الراغبين في التحرر من قيود السلطة الحالية.