"يناير" التي أطاحت بنا

يقول الصوفي الزاهد بن عبد الجبار النفري «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة»، واعتقد أنه بعد مرور سنوات طويلة اتسعت الرؤية بما يكفي ويزيد، حتى تقزم المشهد وكُشفت دروبه.

مع اقتراب كل عام ميلادي جديد، تتخللنا الحيرة وتنال منا الأسئلة الموجعة والأكثر إيلامًا، بماذا سنحتفل هذا العام؟ بعيد ثورة 25 يناير؟ أم بعيد الشرطة؟ وكيف سيروج المثقفون والإعلاميون للاحتفال، أسيعرضون تضحيات الشعب المصري الذي لاقى حتفه في كافة الميادين؟ أم سيعرضون بطولات رجال الشرطة في عيدهم التقليدي الذي سُرق منهم؟ أم سينقلب الناس على الجهتين، ليصبح الوطن بين شقي رحي، ناقمون على «يناير»، وناقمون على الشرطة، وتدور الرحى وتدور معها أدمغة المصريين وتضيق عليهم الدنيا بما رحبت.

القضية بكل بساطة تكمن في وضع مقارنة بسيطة في ذكراها السابعة، بين ما كان وما أحلٌ، ليجد السواد الأعظم من الناس أن خسائرها أكبر، ووقعها أصدى، وضررها أكبر من نفعها، وهناك أيضا مستفيدون منها حققوا ما أرادوا، ظهروا فجأة واختفوا فجأة، وما بين ظهورهم واختفائهم كان هناك حسابات بنكية تفتح لأول مرة، وأختام على جوازات سفر تعددت بين الشرق والغرب، وأسماء تتردد صداها يوميًا، في مجالس قومية، ومؤسسات تشريعية، وأخرون ذهبوا أدراج ملفات في مكاتب الأجهزة السيادية أو مجرد أسماء على قوائم ترقب الوصول في مطار القاهرة وموانيها.

ظروفًا اقتصادية قاسية، وفجوة اتسعت بين طبقات المجتمع، وشباب إما في السجون وإما في المقابر، وإما يبحثون عن عمل في الداخل الذي ضاق أو في الخارج الذي يتعالى عليهم، وحينما يصل بهم الحنق يسبون «يناير» وما جلبته «يناير» ويتمنون لو عاد بهم الزمن إلى ما قبل «يناير»، حتى ولو لم تكن «يناير» سببا مباشرًا فيما هم فيه من قلة الحيلة وضيق الرزق، حتى بعد مرور 12 عامًا على اندلاعها.

لقد أطاحت بنا «يناير» ولم تطح بنظام سياسي، لقد قتلتنا وقتلت شعبًا بأكمله، نالت منا أكثر مما نالت من مبارك وحاشيته، كانت هي فشلنا الأول؛ هكذا يقول الواقع، قضت على كثير من أحلام الناس والشباب على وجه التحديد، حتى أن منا من لم يعد يذكرها بشيء، لا بخير ولا بشر، حتى محطة مترو السادات التي تخضع لقانون الإجازات وتحصل على فترة راحة في تلك الذكرى لم تغلق هذا العام، وكأن «يناير» مجرد صفحة من عمر الوطن انطوت من سجلات التاريخ، إلا أن وزن تلك الصفحة كان ثقيلًا إلى حد بعيد، كانت صفحة بوزن شعب بأكمله.

لقد عبرت فينا «يناير» كما النهر، ثم ما لبثت ان اتجهت إلى مصبها صوب البحر، غير عابئة بما تركته على ضفافنا سواء كان خيرا أم شر.

كان لمواطنينا أمل كبير بعد «يناير»، وما لبث أن تقزم ذلك الأمل يومًا بعد يوم، فقبل «يناير» كان الناس يخشون أذان الحوائط التي كانت تصغى إلى كل كبيرة وصغيرة، إلى كل شاردة وواردة، أما بعدها فأصبح الناس يملكون الجرأة على طرح الأسئلة بل والتحريض عليها، ثم ما لبثوا أن كظموا كل ما لديهم من أسئلة وغيظ داخل أنفسهم، حتى أيقن الناس أن «يناير» كانت أجمل الأوهام وأكثرها وجعًا.

 مؤلمة هي الكتابة عن «يناير»، مخجلة، محاطة بالخطوط الحمراء، لأن دستور الدولة يؤكد على احترامها، أما دستور الناس في الشوارع، والموظفين الذين سُرحوا من مصانعهم وشركاتهم، والشباب الذين خسروا أعمالهم، لهم دستور أخر، دستور يعترض على معنى العدالة الاجتماعية التي نادى بها من نزلوا إلى الميادين يومها، دستور يعترض على مطالب العيش والكرامة والإنسانية التي يشك في أن من نزلوا وقتها كانوا يعرفون ما معنى العيش والحرية العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، دستور يسأل دائما عما إذا كان هذا فقط كان كل ما يطلبه المصريون؟، أم أن هناك شيئًا أخر، حتى جرفتهم يناير إلى شاطئ أخر، يظهر المصريين عليه وكأني بهم يجففون أيامهم السعيدة حتى يستخدمونها في غير مواسمها.

يا لها من مغامرة غير محسوبة، ويا لبؤس الواقع السياسي وبؤس كل من يتحدث عن «يناير» أو باسمها، لقد  أفرزت كثيرًا من سوء النية وفساد الذمم، أظهرتنا عرايا وصامتين أمام أنفسنا، أظهرتنا نادمين على ما اقترفناه من ذنب عظيم في حق أنفسنا، حتى لم يعد هناك من يذكرها بخير، لم نسمع أن يناير كانت سببا في ثراء المواطنين، ولا حصل أهالينا منها على أموال وعطايا، ولا أقامت المجتمع وأقعدته، كل ما فعلته كان تقليبًا لما في القاع، وأصبحت خنجر استقر في قلب التاريخ.