< هل تكفي الهزّات الكبرى لصناعة هيمنة دائمة؟
متن نيوز

هل تكفي الهزّات الكبرى لصناعة هيمنة دائمة؟

الدكتور قاسم السعد
الدكتور قاسم السعد

 

بقلم الدكتور قاسم السعد: باحث في حقوق الطفل وحقوق الإنسان

تقدّم المقالة موضوع النقاش قراءة مكثّفة للتحولات الكبرى التي شهدها الشرق الأوسط منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، وتنتهي إلى خلاصة مفادها أنّ إسرائيل، على الرغم من تفوقها العسكري والاستخباري غير المسبوق، عاجزة عن التحول إلى قوة مهيمنة طويلة الأمد في الإقليم. هذه الخلاصة، على وجاهتها، تستحق نقاشًا أعمق، لا بهدف نقضها، بل لتدقيق شروطها وحدودها في ضوء التحولات المتسارعة التي تعصف بالمنطقة.

تنطلق المقاربة من تعريف تقليدي للهيمنة بوصفها تفوقًا شاملًا عسكريًا واقتصاديًا وديموغرافيًا، واستقلالًا عن الحماية الخارجية، وقدرة على فرض القواعد على المجال الإقليمي. ووفق هذا المعيار الصارم، تبدو إسرائيل محكومة بقيود بنيوية واضحة. غير أنّ هذا التصور يفترض نموذجًا واحدًا للهيمنة، فيما تشير تجارب العلاقات الدولية إلى أنماط مختلفة منها، أبرزها الهيمنة غير المباشرة، أو ما يمكن تسميته «الهيمنة التعطيلية»، التي تقوم على منع تشكّل أي توازن مضاد مستقر، لا على الاحتلال المباشر أو السيطرة الفيزيائية الدائمة. من هذا المنظور، قد لا تكون إسرائيل قوة مهيمنة مكتملة، لكنها باتت قادرة على تعطيل محيطها الاستراتيجي وإبقاء خصومها في حالة إنهاك مزمن.

صحيح أنّ تراجع أو إضعاف قوى مقاومة مركزية لا يعني نهاية الصراع أو قبول الشعوب بالأمر الواقع، إلا أنّ طبيعة المواجهة نفسها تغيّرت. فالإنجاز الإسرائيلي الأساسي لم يكن في السيطرة الميدانية أو التوسّع الجغرافي، بقدر ما كان في تفكيك منظومات الردع، وضرب البنى القيادية، ونقل الصراع إلى مستوى تكنولوجي واستخباري يصعب على الخصوم مجاراته في المدى القريب. هذا التحول لا يمنح إسرائيل شرعية سياسية أو أخلاقية، لكنه يفرض وقائع ردعية جديدة قادرة على الاستمرار زمنًا، حتى في ظل عداء شعبي واسع النطاق.

غالبًا ما يُقدَّم الاعتماد البنيوي لإسرائيل على الولايات المتحدة بوصفه عامل ضعف ينفي عنها صفة القوة المهيمنة. غير أنّ التحالف العضوي مع القوة الأعظم في العالم يرفع كلفة أي مواجهة معها، ويوفر لها غطاءً سياسيًا وعسكريًا، ويتيح لها تجاوز اختلالاتها الداخلية والبنيوية. وعليه، قد لا تكون إسرائيل قادرة على الهيمنة منفردة، لكنها تمارس نفوذًا فاعلًا ضمن منظومة تقودها واشنطن، وهو نمط من السيطرة غير المباشرة لا يقل تأثيرًا في المدى المتوسط.

لا شكّ في أنّ محدودية الجغرافيا والديموغرافيا تشكّل قيدًا استراتيجيًا حقيقيًا على إسرائيل. لكنها عوّضت ذلك عبر التفوق الجوي، والسيطرة السيبرانية، والقدرة على تنفيذ ضربات دقيقة بعيدة المدى. فهي لا تسعى إلى ملء الفراغ الجغرافي بوجود بشري كثيف، بل إلى إدارة الإقليم عن بُعد، ومنع تشكّل قوى معادية قادرة على المبادرة أو فرض معادلات ردع جديدة.

في هذا السياق، لا يمكن لأي قراءة جدية لمسألة الهيمنة أن تتجاهل دور قوى إقليمية وازنة، وفي مقدمتها تركيا والمملكة العربية السعودية. فهاتان الدولتان، رغم اختلاف مقاربتيهما، تشكّلان عامل توازن بنيوي يمنع تكريس هيمنة إسرائيلية مستقرة. تركيا، بقوتها الجغرافية والبشرية وصناعتها العسكرية المتقدمة، تعتمد سياسة إدارة التوازن لا الصدام المباشر. فهي لا تقبل بدور إسرائيلي مقرِّر في المشرق، ولا سيما في سوريا وشرق المتوسط، لكنها تفضّل توسيع نفوذها التدريجي وتعزيز حضورها الإقليمي بدل الدخول في مواجهة مفتوحة.

أما السعودية، فقد انتقلت في السنوات الأخيرة من موقع الإدارة الخلفية إلى إعادة التموضع الاستراتيجي. فهي تمتلك ثقلًا اقتصاديًا وطاقويًا وسياسيًا لا يمكن تجاوزه، وتدرك أنّ أي هيمنة إسرائيلية مطلقة ستضعها في موقع التابع أمنيًا واستراتيجيًا، وهو ما يتناقض مع طموحاتها الإقليمية ورؤيتها لمستقبل دورها في المنطقة. لذلك، تعمل على منع انهيار التوازنات الإقليمية، من دون الانخراط في صراع مباشر أو مفتوح.

تعيش إسرائيل اليوم مفارقة واضحة: تفوق عسكري واستخباري كبير، يقابله قلق وجودي وهشاشة داخلية مزمنة. هذا القلق، بدل أن يحدّ من اندفاعها، قد يدفعها إلى مزيد من السلوك العدواني، ما يجعلها قوة خطِرة وغير مستقرة، أكثر مما يجعلها قوة مهيمنة راسخة.

في الخلاصة، إسرائيل ليست قوة مهيمنة مكتملة الشروط، لكنها تحولت إلى قوة قادرة على كسر التوازنات وتعطيل خصومها لفترة غير قصيرة. غير أنّ القيود البنيوية، وغياب الشرعية، والاعتماد الخارجي، ووجود قوى إقليمية موازِنة كتركيا والسعودية، جميعها عوامل تمنع تحوّل هذا التفوق إلى هيمنة دائمة. فالشرق الأوسط، تاريخيًا، لا ينتج قوى مهيمنة مستقرة، بل توازنات متحركة، وما نشهده اليوم ليس نهاية التاريخ في المنطقة، بل مرحلة انتقالية مفتوحة على احتمالات متعددة.