< كيف تُعيد القوى العظمى بناء الأنظمة المنهارة؟
متن نيوز

كيف تُعيد القوى العظمى بناء الأنظمة المنهارة؟

متن نيوز

مما لا شك فيه إن أيدي القوى العظمى وحتى بعض القوى الإقليمية لم ولن تكون بعيدة عن إشعال الحرائق واطفائها وصنع الازمات ومن ثم الظهور بمظهر الوسطاء. الاهم من كل ذلك أنه حين تقترب دولة من الانهيار أو نظام من السقوط، تسارع هذه القوى إلى التدخل.. ليس حبًا في “الاستقرار” بل رغبة في الاستثمار بالضعف.


تُقدَّم المساعدة تحت عنوان “الإنقاذ”، لكنها في الحقيقة عقد إذعان طويل المدى، تُمنح بموجبه امتيازات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية مقابل إنقاذ النظام من السقوط. إنها استراتيجية قائمة على معادلة بسيطة: أضعف البلد ثم أنقذه... ليصبح ملكك.


سوريا.. النموذج الأوضح لإعادة التشكيل


عندما كانت المعارضة السورية على وشك السيطرة على دمشق عام 2015، تدخلت روسيا بقوة وقلبت المعادلة لصالح نظام بشار الأسد. كان الثمن واضحًا: شيك مفتوح لبوتين، تمثل في قواعد عسكرية دائمة في طرطوس وحميميم، واتفاقات اقتصادية تمنح موسكو اليد العليا في الطاقة والإعمار. منذ تلك اللحظة لم يعد القرار السوري مستقلًا، بل بات جزءًا من هندسة روسية كاملة لإقليم الشرق الأوسط، تضمن مصالح موسكو على حساب سيادة الدولة السورية.


ليبيا.. الصفقة التركية مقابل الإنقاذ


في ليبيا، تكرر السيناريو ذاته حين تدخلت تركيا عسكريًا لإنقاذ حكومة الوفاق بعد أن كانت قاب قوسين من السقوط أمام قوات الشرق الليبي. وبموجب هذا التدخل حصلت أنقرة على اتفاقات بحرية واقتصادية واسعة، مكّنتها من النفوذ في شرق المتوسط، وأعادت إنتاج نفوذ عثماني جديد في شمال إفريقيا.


لقد أنقذت تركيا الحليف، لكنها في المقابل اشترت القرار الليبي بثمنٍ بخسٍ في لحظة ضعفٍ قاتلة.

في الحرب اليمنية، مورست سياسة الإضعاف ذاتها لكن بأسلوب غير مباشر. بدأ ذلك بحادثة خاشقجي التي أضعفت موقف ولي العهد السعودي سياسيًا على الساحة الدولية، تلتها ضغوط غربية بإيقاف بيع السلاح والدعم اللوجستي والاستخباري، ما جعل السعودية مكشوفة أمام هجمات الحوثيين المدعومين من إيران.

تطورت الأمور حتى استُهدفت المنشآت النفطية في قلب المملكة، ما ولّد إحساسًا بالخطر والإنهاك.

عندها طُرح “الحل السياسي والتسويه” واتفاق بكين كطوق نجاة، لكنه جاء برعاية المحور الشرقي.. روسيا والصين وإيران، ما جعله خروجًا من مأزق، لكنه في الوقت نفسه فتح الباب لتغلغل نفوذ ذلك المحور في الخليج واليمن

اليوم تبدو السودان على أبواب السيناريو ذاته.

نظام البرهان يواجه حالة ضعف غير مسبوقة بعد الانكسارات الميدانية أمام قوات الدعم السريع، والبلاد تتجه إلى نقطة الانهيار السياسي والعسكري.

عند هذه النقطة الحساسة، يصبح التدخل الخارجي حتميًا — تدخلًا يرفع شعار “الإنقاذ” لكنه في جوهره إعادة تشكيل للنظام الحاكم وفق مصالح الجهة المتدخلة.

ومن المرجح أن يكون محور روسيا–الصين–إيران–تركيا هو العامل الحاسم في هذه المعادلة، كما كان في سوريا وليبيا.

فالمحور ذاته نجح في فرض نفوذه على القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وهو اليوم يتحرك بهدوء لتكرار التجربة داخل السودان، مستفيدًا من هشاشة المشهد وضعف القرار الوطني.

النتيجة الحتمية: الإنقاذ الذي يُعيد الاحتلال

كل إنقاذ خارجي في لحظة ضعف يحمل في طياته بذور التبعية الطويلة.

فمن يُنقَذ لا يملك شروط النجاة، ومن يطلب العون في أضعف لحظاته يوقّع ضمنيًا على التنازل عن جزء من قراره وسيادته.

إنها لعبة القوى الكبرى منذ الحرب الباردة: اصنع الأزمة، ثم تدخل لحلّها... لتصبح أنت صاحب الأرض لا الوسيط فيها.


الخلاصة:


السودان اليوم أمام مفترق طرقٍ مصيري:

إما أن يختار الاستقلال الحقيقي عبر تسوية وطنية داخلية تحفظ قراره وسيادته، أو يسمح بتكرار سيناريوهات سوريا وليبيا واليمن، حيث يتحول “الإنقاذ” إلى احتلالٍ ناعمٍ بغطاءٍ دبلوماسيٍ واقتصاديٍ طويل الأمد.

فالقوة التي تأتي لإنقاذك وأنت في أضعف حالاتك… لن تغادر إلا وقد أعادت تشكيلك على صورتها.

اليمن هي الأخرى ليس امامها من خيار لمواجهة الحرب والمجاعة سوى تحكيم لغة العقل والعدل وهو فك ارتباط سلمي وسلس وعودة الدولتين المتعايشتين مع بعضهما البعض ومع محيطهما العربي والدولي على قاعدة الاستقلال والعلاقات الثنائية وفقا للمصالح المشتركة.